الشعر الشعبي بين الشفاهية والتدوين


 يضم التراث العربي نوعين من المعارف: معرفة لعبت فيها الصفوة دورا هاما في ميادين شتى كعلوم اللغة والأدب والفلسفة والتاريخ والطب... ونوع آخر يتضمن المعرفة الشعبية المتعلقة بعامة الناس والمتمثلة في الأساطير والحكايات والأغاني والأمثال... ترتبط المعرفة الأولى بشخصيات معروفة وإسهاماتها بإبداعات مختلفة تصلنا في مجملها مطبوعة في كتب أو مدونة في مخطوطات بينما تصلنا الثانية في شكل شفهي تتداولها الأجيال بالرواية جيلا بعد جيل وقد تخضع للكتابة والتدوين فيما بعد... وهذا الكلام في حقيقة الأمر يطرح إشكاليتين: تتعلق الأولى بهذا التمييز بين معرفتين في صلب ثقافة واحدة نريد منها أن تكون صلبة في مواجهة تحديات العصر والعولمة ولتنظم للحوار بين الحضارات وهي ذات أسس صحيحة ومبادئ ثابتة. أما الإشكالية الثانية فهي خضوع التراث الشفوي للكتابة مما جعل الباحثين يختلفون حول هذه المسألة بين مدافع عن أهم خصائص التراث الشعبي ألا وهي التناقل الشفوي وبين مناصر للتدوين ومؤيد له بحجج مختلفة.

    لن نحيد، في هذا البحث، عن إطار هذه الإشكالية الثانية،إذ سنحاول الخوض في قضية التراث الشعبي بين الشفاهية والكتابة من خلال نموذج مميز من الأدب الشعبي ألا وهو الشعر الشعبي العربي.

       وسنتناول المسألة في جزأين: سنعمل في الأول منهما على تقديم مفهوم الشعر الشعبي ثم سنركز على أسباب إهماله وعدم اعتماده كمصدر تاريخي وسنحاول في الأخير تدعيم رأينا بأحقيته أن يكون وثيقة تاريخية قد تلقي الضوء على بعض الجوانب الخفية من تاريخ هذه الأمة.

   أما في الجزء الثاني فسنحاول إبراز ايجابيات كتابة الشعر الشعبي وتدوينه والتركيز على علاقة الشفوي بالمكتوب من خلال طرح بعض التساؤلات حول قضية تعدد اللهجات ودواعي الكتابة وبالتالي الحديث عن المصداقية ثم قراءة المكتوب من الشعر الشعبي والعوائق التي تحيط بذلك.


مفهوم الشعر الشعبي:

         اختلف الباحثين الذين اهتموا بالشعر الشعبي حول تحديد مفهوم موحد له و بالخصوص حول مقوماته وهي قضية عامة تخص الأدب الشعبي ككل، فهناك من المهتمين من أكد على أن الشعر الشعبي“ شعر لغته العامية ومواضيعه الاهتمامات اليومية للناس مع ارتباطه بالغناء تثريه أجيال الشعراء والمغنين ولكن بإمكان أي أحد استلهامه وهو ينتقل أساسا عن طريق الرواية الشفوية وتبقى الذاكرة الشعبية أهم ما يحفظ لنا التراث الشعري ”.(1)

    يمكن أن نستنتج من خلال هذا التعريف أهم مميزات الشعر الشعبي ألا و هي: اللغة العامية والمواضيع الشعبية والتداول الشفوي...

تبقى هذه الخاصية الأخيرة حسب هذا التعريف غير وحيدة كوسيلة للتناقل الشعر الشعبي والدليل على ذلك استعمال مصطلحات مثل “ أساسا ” و“ أهم ” مما يعني أنه هناك تلميح لوجود وسائل أخرى غير الرواية الشفوية كأداة لتداوله وغير الذاكرة الشعبية كوعاء لحفظه وإذا ربط التعريف السابق أداء هذا الشعر بالأغنية فإن محمد المرزوقي يسير في نفس الاتجاه فالشعر الشعبي بالنسبة إليه هو “ مجهول المؤلف توارثته الأجيال بالرواية الشفوية أي الذي تغنى به الناس طويلا وتناولته الروايات بالتبديل والتغيير والتهذيب بما يناسب روح الشعب وفن الشعب”(2)، ويؤكد على أنه ذلك الذي يردد في المناسبات مثل الأعراس والأعياد والمآتم والعمل والسفر... لذلك فهو يرتبط بالغناء وهو ما ذهب إليه أيضا محي الدين خريف إذ يقول بـأن الشعر كان وما زال مرتبط بالغناء ولذلك لا نعجب من الشاعر المغني والمغني الشاعر(3)، ولا يختلف معهما عبد الحميد يونس ففي معجمه الفلكلوري تعريفه للأغنية الشعبية يقول هي الشعر الشعبي والموسيقى المصاحبة له واللذان ترددهما الجماعات التي ينتشر أدبها بالرواية الشفوية لا بواسطة التدوين والطباعة(4).

      ارتباط الشعر الشعبي بالغناء جعل من بعض الدارسين يذهبون في اتجاه تسميته بالشعر الملحون غير أن المرزوقي يخالفهم الرأي  يقول بأن الملحون أشمل فهو “ كل شعر منظوم بالعامية سواء كان معروف المؤلف أو مجهوله وسواء روي من الكتب أو مشافهة وسواء دخل في حياة الشعب فأصبح ملكا للشعب أو كان من شعر الخواص ”(5)، وهو ما جعل المكتوب من الشعر الشعبي ينضوي تحت لواء الشعر الملحون حسب رأيه. 

      هذا الاختلاف هو أداة تناقل الشعر الشعبي وإصرار العديد من الباحثين على أن روحه في تناقله الشفهي جعلته مهملا من طرف عدة فروع علمية ولنا في عدم الاستفادة منه في علوم التاريخ خير دليل.

    لم يقتصر الاختلاف حول ماهية هذا الجنس من الأدب الشعبي إنما كان قبل ذلك في التسميات المختلفة التي تطلق عليه من بلد إلى آخر ، فبينما يسمى “ زجلا ” بالمغرب الأقصى يسمى “ شعر شعبي ” بتونس و“ شعر عامي ” بمصر و“ الشعر النبطي ” بدول الخليج العربي. يصل الاختلاف في التسمية من منطقة لأخرى داخل نفس القطر، ففي البلاد التونسية يسمى صاحب النص الشعري “ شاعر شعبي ” في بعض الجهات و“ غناي ” في أخرى و“ أديب ” في ثالثة.

    مهما كان الاختلاف في المفهوم أو الاسم فان للمادة التي يقدمها هذا أو ذاك من كل الأقطار تشابه كبير في المضامين والأشكال نظرا لانتمائهم لفضاء واحد بجذوره التاريخية وهمومه الحالية. 


  الشفوي والمكتوب في الشعر الشعبي:

        إن الكتابة لا تؤثر في مكانة الشعر فإذا كان كل ما يكتب منه يخرج من دائرة التراث الشفوي بطبيعة الحال بحسب منظور أنصار شعار“ المكتوب ليس شعبيا ” فنحن أمام مدة معينة لإنهاء هذا الإبداع الأدبي الشعبي بما أننا في كل لقاءاتنا ودروسنا ومنشوراتنا ندعو ونوصي بجمع وتدوين الشعر الشعبي. 

        تدفعنا هذه المسألة إلى قضية أخرى مرتبطة بها شديد الارتباط ألا وهي اعتبار كل ما لم يكتب وبقي يتداول شفويا فهو بالضرورة شعبي كما أنه لا يعني حرمان المكتوب من التراث الشعري من صفة الشعبية فهي مكسب قديم(6).

     إن كتابة الشعر الشعبي أمر جد ضروري فكتابته ستعمل على إنقاذ هذا التراث من الضياع لأن المخزون الشعري أصبح يضمحل تدريجيا ويبدو من الواجب الاهتمام بجمعه والاشتغال بانتشاله من الاضمحلال حفاظا على تاريخ مجتمعنا وألوان حياته السابقة وأنواع فنونه الظريفة.

    كما أن الكتابة ستساهم في توسيع دائرة ملتقى الشعر لأن المكتوب أوسع انتشارا من الشفوي فهو يتخطى الحدود الجغرافية والتاريخية ويكسر الحواجز والمسافات ولا ينحصر مفعوله في نطاق ضيق إذ ينتقل بيسر إلى كل بقعة من العالم فمع الكتابة نتجاوز التواصل ذو البعد الواحد إلى التواصل ذو البعدين مما يمنح القارئ مجالا أرحب لإعادة التفكير في هذا الشعر واكتشاف دلالته العميقة إذ يستمعن فيه مرات ومرات على عكس من سماعه لمرة وحيدة تبقي الفهم في مستوى السطحية وربما يكون مجرد انطباع عام لا أكثر ولا أقل خاصة إذا تعلق الأمر بالشعر الرمزي فهاهو الشاعر المولدي عجال يتحدث عن أمه فيقول:

أُمِّي كَانَتْ وَاخْذَهْ شِيبانِي كِبيرْ             وُعَاجِزْ في التَّفكيرْ
وَقْتِ إنْ عِجِزتْ فِكِرْتَهْ اِعْطَاهَا لِلِّغِيرْ(7)
كِتَبْ عِليها عُقودْهَا فْي وَقِتِ قِصيرْ            بِعِنْوَانْ التَّحْضيرْ
مُوشْ عَارِفْ مِنْ بَعِدْهَا كِيفَاشْ ايصِيرْ(8)
فِي بَالَهْ تَيْرُدِّهَا في لِبَاسْ احْريرْ                وِجَرَّايَةْ وِسِريرْ
وِلَكِنْ وَلَّتْ شَافِقَةْ عَلْ جَرْدِ احْصِيرْ(9)

      وأمه هنا ليست إلا تونس الوطن من يد الحسينيين إلى الاستعمار الفرنسي إذ يصرح في الأخير:

يَا اللِّي تَفهَمْ مَعِنْتِي وِ لَفْظِ التَّعْبيرْ         تُونسْ فِي حُكَمِينْ

بِينْ ظُلِمِ اسْتِعْمَارِهَا وَأَوْلاَدْ حِسِينْ(10)

    لكن من المآخذ على النص المكتوب هي جموده فنيا حيث يتميز الشفوي بالحيوية والتجديد في حين يبقى الشعر المكتوب نصا واحدا لا غير فنحن نعرف أن كل أداء جديد هو إنشاء وفي كل مرة يروي فيها الشعر تكون أمام نص جديد(11)، فعندما تتناول المجتمعات العمل الأدبي الشفوي يتعرض للتحوير وتبث فيه بعض من خصائصها(12) على العكس من المكتوب فنحن أمام نفس الصفحة نفس الكلمات ونفس الحروف.

 كما أننا في الرواية الشفوية نشهد ما لا يتوفر للمكتوب فهذا الأخير صحيح أنه خلق جمهورا غير مباشر لكن تفصله حواجز عما يقرأ إذ لا يستطيع القارئ التفاعل مع المؤدي بصورة مباشرة لينقل له مشاعر الاستحسان أو الاستهجان (13) حضور الإشارات الإيمائية الأصلية والحركات التي يؤديها الشاعر أو الراوي لها قيمتها في الشعر الشعبي إذ أن الحركة والإيقاع الصوتي جعلت من المنظرين في تونس يضعون وزنا كاملا من أوزان الشعر الشعبي له علاقة بالحركة وهذا الوزن هو:“ البورجيلة ” تصغير لكلمة رِجل، لأن الشاعر زمن الأداء تجده يحرك إحدى رجليه ويسمى أيضا في بعض المنطـق بـ “ بو ساق ”(14) ويقول أحد الشعراء على هذا الوزن ملزومة هرقالي:

فُزْتِ يا رِيمْ الغُزْلانْ          زِينِكْ شَايِدْ في الأًوْطَانْ(15)
فُزْتِ يا ريمْ الدَّاوِيةْ               مَا كِيفِكْ حَتَّى عَرْبيةْ(16)
شايِدْ زِينكْ يا عرْبيَّةْ         مِنْ تُونس حَتّى اِلْ فَزَّانْ(17)
رَبِّي ايْصُونِكْ يا شِنَتِيَّةْ        وِايفُكِكْ مِنْ عِينْ المِعْيانْ(18)

       أما بالنسبة للباحثين فإن الكتابة ستساعدهم على تحديد عدة جزئيات تخص الشعر الشعبي  التي تبدو بسيطة في الوهلة الأولى  لكنها هامة جدا إذا ما رمنا دراسة معمقة وشاملة لهذا العنصر من الأدب الشعبي فالإنكليز مثلا من تحديد تاريخ أول استعمال للأمثال الشعبية في تراثهم المكتوب في حين يبقى الاختلاف والضبابية بأبسط القضايا التي نعالجها ومن هنا يبرز دور التدوين فهل لنا أن نتساءل عن تاريخ المرة الأولى التي كتب فيه أبيات من الشعر الشعبي في الآثار المدونة.

       ومن أهم القضايا التي تعترضنا و نحن نخوض في موضوع الكتابة في علاقتها بالشفاهية في الشعر الشعبي مسألة تعدد اللهجات إذ تدعونا الموضوعية إلى ضرورة تدوين الشعر بلغته الأصلية دون أدنى تحريف مع احترام الفوارق اللهجية لكن القارئ سيجد صعوبة استيعاب الشعر المكتوب لأنه حسب رأي البعض قيل ليسمع لا ليقرأ(19) بل عد بعضهم التدوين من أكبر أعداء الشعر الشعبي وذلك لأنه شفاهي صوتي بالأساس(20) ودعت صعوبة فهم اللهجات المحلية والقُطرية أحدهم للقول بأن “ الشعر الشعبي النجدي لا يمكن أن يقابل بالقبول والفهم والتأثر من قبل المتلقي التونسي أو السوداني والعكس صحيح ”(21).

        كما أن كتابة العامية بما يطرأ عليها من متغيرات ستزيد الأمر تعقيدا إذ أن المصطلحات المحلية تستعص على أبناء الجهات المختلفة من الدولة الواحدة فما بالك خارجها وإليكم نموذجين  من الشعر الشعبي يتناولان نفس الغرض: الأول الشاعر الشعبي الجزائري ابن العطار ويقول في مطلع قصيدة يصف فيها فرسا(22):

الله لاَ شِيهَانْ بِالسَّيرْ امْوَلفْ      كُثِرِ الخَطْرَةْ وِالغِوَازي وِالحَرَكَاتْ(23)

وها هو الشاعر الشعبي التونسي يستعمل تقريبا نفس شكل المطلع مع تغير المصطلحات(24)

الله لاَ كُـوتْ هَبَّـاقْ         في الجَّرِي سَبَّـاقْ
غِدِي سِيرته مُوشْ قَلاَّقْ         مَطْلُوقْ ايدَهْ وِ ساقَهْ(25)

  رغم هذا الاختلاف في استعمال المصطلحات لوصف الفرس “ شيهان” للأول و“ كوت” للثاني وصعوبة تلقيها خارج بيئتها المحلية فإنه يمكن الوصول إلى معانيها وفهمها جيدا عن طريق ممارسة الخلق الأدبي والاعتصام بالصبر على معاناة أقوال الشعراء في نظمهم.

      تبقى أهم المتغيرات التي تحدثنا عنها هي ثراء معجم اللهجات يوما بعد يوم بما يضاف إليها من الكلمات ذات أصول أجنبية وتستعمل في الشعر الشعبي فالشاعر علي بيلة من تونس يقول في تفضيل الجمل على السيارة معربا حرفيا من اللغة الفرنسية كل قطع السيارة(26):

لاَ نِهِزُوا طُرُمْبَة لِعِجْلَتْهَـا        وِلاَ القَـرَاجْ دُخُولِهَا(27)
وِلاْ يِصَانِصْ يُدْخُلْ بُرْمَتِهَا         ولا أَوْرَاقْ انْدِيرُولْهَا(28)
ولا تِفَرِقْ كُودْ بِلاَكتْهَــا          ولا زِيتْ نِقِيسُولْهَـا(29)
ومَا تَفْرَغْشِي بَاطْرِيَتْهَـا           وِينْ اتْحِبْ وُصُولْهَـا(30)


  لا يقف الشاعر الشعبي بطبيعته عند المتعارف من الكلمات بل يوجد لنفسه اشتقاقات في بعض الأحيان غير موجودة حتى في لهجة عامة الناس. صحيح أن مهمة الفهم عسيرة نسبيا لكن علينا بذل مجهودات في التعود على قراءتها ونطقها والجري وراء الألفاظ والمصطلحات الخاصة التي تختلف باختلاف المناطق والدول لأننا إذا ما اتفقنا في سياق هذا الرأي فسنصحو على سؤال مهم: هل باختلاف اللهجات يتوقف رافد إيصال المعرفة وينقطع التواصل بين أبناء الوطن الواحد؟


    مدونة الشعر الشعبي: 

      لنقف أيضا عند بعض التساؤلات المهمة والتي ترتبط بهذا الموضوع الذي بين أيدينا هي: من يدون الشعر الشعبي ؟ ومن مصدر الرواية؟ إذا ما رمنا التدقيق في السؤال الأول نقول هل الشاعر بنفسه هو الذي يكتب شعره؟ أما طالب علم أو مستعمر أو رجل دين أو عسكري؟

     سنقف ها هنا أمام بعض الدواعي السياسية والأيديولوجية التي ستتحكم في المستعمر الفرنسي مثلا  وهو يدون الشعر الشعبي الجزائري وبالتالي ستغيب عنه الموضوعية العلمية في أغلب الأحيان إذ سيحاول كتابة ما يرضي رغبته ويغض الطرف عن الأبيات والقصائد التي لا تتماشى وسياسة بلاده في هذه المستعمرة(31).

    أما بالنسبة للطالب فقد ترتبط لحظة التدوين بعوائق معرفية كفيلة بأن تجعلنا نتوقف أكثر من مرة قبل الجزم بمصداقية ما هو بين أيدينا كقلة الخبرة في مجال العمل الميداني أو عدم الإلمام بجميع جوانب موضوع بحثه، أما إذا كان من يكتب الشاعر نفسه فإن الأمر أقل حدة وربما يكون الأقرب إلى الصواب ففي تونس تبقى كتابات شعراء الحضر أكثر دقة منها من تلك التـي تنتمي لأبناء الأرياف الأميين ولعل المثال الوحيد المخالف هو الشاعر احمد البرغوثي و هو من منطقة نفزاوة بالجنوب الغربي التونسي المتوفى سنة 1931 فأغلب أشعاره مكتوبة بيده لأنه تلقى تعليما دينيا في موطنه ثم سافر للعاصمة تونس حيث درس لمدة في جامع الزيتونة وقد أبقت لنا مراسلاته مع والده وأصدقائه منتوجه الشعري دون تحريف ومنها قوله لوالده(32):

يَا وَالْدِي جِوَابَكْ قِرِيتْ حُرُوفَهْ       تِمَنِّيتْ رُوحِي مِتْ لاَشْ نْشُوفَهْ
تِمَنِّيتْ لاَشْ قِرِيتَــــــهْ       تِمَنِّيتْ رَانْـي مَـا حَلِّيتَـــهْ(33)

 أما عن سؤال مصدر الرواية فإننا بالتأكيد أمام شخصية الراوي ولن نضيف جديدا عما ورد في البحوث التي تتعلق بقواعد ومناهج العمل الميداني وما يتوجب توفره في شخصية الراوي مثل الاتزان والقدرة على الحفظ أي مدى صفاء ذاكرته ثم طريقة روايته ومهنته... وخاصة السياق الذي وردت فيها التي نسخت أي زمن وقوع الحدث الشعري أي من خلال عكاظية في مهرجان أو غيرها...

  تصل بنا هذه المسألة في نهاية المطاف إلى القراءة نفسها ومدى صحتها من عدمها إذ هي من المؤكد بأنها لا ترتبط بثقافة القارئ وإنما ستتدخل فيها عوامل أخرى كإخراج النص الشعري المكتوب وجودة النسخ أو الطباعة ودقة النقل فقد يغيب الإملاء الصحيح من الراوي والاستماع الجيد من الكاتب فتكثر الأخطاء وحتى “ الاجتهاد في توضيح الكتابة وشكل الكلمات فإن ذلك لن يحل المشكلة ”(34).

       إن الشفوي والمكتوب في كل الثقافات متجاوران متفاعلان يتبادلان التأثير والتأثر والثقافة الشعبية تعبر عن نفسها بالأسلوبين معا ولعل الوسائط المتعددة المترابطة اليوم ستضفي على الشعر الشعبي والتراث الشفوي عامة الكثير من عناصره الأصلية التي حرم منها وسيساعد التطور التكنولوجي عي إيجاد قنوات جديدة لنشر وترويج وتقريب هذا الإبداع الشعبي إلى الأذهان.

       في الأخير يكفي الشعر الشعبي فخرا بغض النظر عن كونه مكتوب أو شفوي، أنه حمل على عاتقه مسؤولية تواصل تناول عدة موضوعات غابت منذ زمن بعيد عن الأدب الفصيح بنثره وشعره. كما أن المرحلة الراهنة مرحلة هامة جدا إذ تتعرض فيها مكونات المأثورات الشعبية عامة لعوامل الإبدال والاختراق الثقافي مما يضطرنا إلى الإسراع بتجذير مقاربات منهجية ومسالك علمية واضحة في تناول موضوعات الأدب الشعبي شكلا ومضمونا.


الدكتور محمد الجزيراوي

الهوامش:
1) مجلة التراث الشعبي العراقية،العدد30، السنة الرابعة.
2) المرزوقي (محمد)، الأدب الشعبي، الدار التونسية للنشر،  تونس 1967، ص 51. 
3) خريف ( محي الدين)، الشعر الشعبي التونسي، الدار العربية للكتاب، ليبيا 1991،  ص 11. 
4) يونس(عبد الحميد)، معجم الفولكلور، لبنان 1983،  ص25. 
5) المرزوقي، المرجع السابق، ص 209. 
6/ البقلوطي (الناصر)، “ التراث الشعبي : مفاهيمه ومواده ”، المأثورات الشعبية، الدوحة 1989، ص 18. 
7) أمي كانت متزوجة من شيخ كبير عاجز عن التفكير ولما حيره أمرها أهداها للغير.
8)  كتب عقود بيعها بسرعة لأن شاريها سيتمكن من الارتقاء بها حضاريا ولكنه لم يكن يعرف ما سيحل بها.
9) كان في ظنّه أنها سترتدي معه الحرير وتنام على سرير وثير لكنها أصبحت تحلم بحصير قديم.
10) يا أيها السامع الذي تفهم معاني كلماتي إن تونس تئن تحت وطأة حكم المستعمر والعائلة الحسينية.
11/ مبارك (حسن)، المختصر في الشعر الشعبي، تونس 2001، ص 52- 53. 
12/ راشد الحداد (آمنة)، “ جمع المأثورات الشعبية ”، المأثورات الشعبية، الدوحة 1986، عدد 4، ص 156.
13/  حامد حريز (سيد)، “ تحديد مفهوم الأدب الشعبي ”، المأثورات الشعبية، الدوحة 1986، عدد 3، ص 31 .
14/ زيد الرفاعي (حصة)، “ الفلكلور في الوسائط الجماهيرية ”، عالم الفكر، الكويت 1995 ، ص 175.
15) انتصرت يا غزالة وأصبح جمالك معروف في كل الأوطان.
16) انتصرت يا غازلة الصحراء التي ل مثيل لها في بلاد العرب
17) جمالك مشهور بين العرب من مدينة تونس حتى مدينة فزان بالجنوب الليبي.
18) يحفظك الله أيتها الصبية ويحميك من كل العيون الحاسدة.
19) المرزوقي، المرجع السابق، ص 96 .
20) بالطيب (محمد الناصر)، شموع و دموع ، تونس، 2003، ص 12. 
21) القحطاني (عبد المحسن)، نص في موقع الكتروني : www.alhidaya@yahoo.com
22) بورايو، مرجع سابق، نفس الصفحة.
23) تبارك الله على هذا الجواد النتعود على العدو في الغارات والغزوات...
24) خريف، مرجع سابق، ص 159.
25) تبارك الله على هذا الفرس الجامح الفائز والمشهور بعدم تراجعه وقوة وجمال قوائمه.
26) البقلوطي (الناصر)،“ عكاضية دوز ”، مجلة الفنون و التقاليد الشعبية، تونس 1976 عدد5 ص 7.
27) لا نحمل معنا آلة نفخ هواء العجلات ولا نبني لها مرآب 
28) ولا نصب في خزانها محروقات ولا نستخرج لها وثائق الجولان.
29) ولا نضع لها رقم منجمي ولا نصب زيت لمحركها.
30) ولا تنضب آلة شحنها وأينما تريد تصل.  
31) بورايو،  نفس المرجع و الصفحة.
32) ضيف الله (محمد)، نوافذ على تاريخ نفزاوة،  الطبعة الأولى، تونس 2001 ، ص157.
33) يا والدي لقد قرأت رسالتك وتمنيت أنني لم أفتحها أصلا.
34) بالطيب، نفس المرجع،  ص 13.